جسد الأنوثة... بعيدًا عن الهامش

جورج سارجنت، 1905.

 

تُعَدّ دراسة الجسد من الدراسات المتقاطعة والمتشابكة مع مسالك معرفيّة عديدة مثل التحليل النفسيّ، والدراسات الأنثروبولوجيّة، والسوسيولوجيّة، والفلسفيّة، والثقافيّة، وكذلك الأنطولوجيّة. وقد تنوّعت الخطابات الّتي تناولت موضوع الجسد الإنسانيّ وتمظهراته في الحياة اليوميّة؛ فنجد الخطاب الأنثروبولوجيّ الّذي يهتمّ بدراسة العلاقة بين الواقع الاجتماعيّ والجسد، وتحليل العمليّات الّتي يتحوّل فيها الجسد إلى شيء من صنع المجتمع، وعلم الاجتماع ليس استثناء؛ فقد برز علم اجتماع الجسد بوصفه مجالًا متميّزًا للدراسة كنتيجة لهذا الاحتفاء بهذا الموضوع، وقد تناول علماء الاجتماع الجسد عبر عدّة زوايا، لعلّ أهمّها وأبرزها الزاوية الّتي لم تعتبر الجسد مجرّد تجميع لأعضاء فيزيولوجيّة، بل اعتبرته بنية رمزيّة قادرة على التداخل مع الأشكال الثقافيّة حولها، ووسيطًا لكلّ الممارسات الاجتماعيّة. وتمثّل هذه الرؤية أساس علم اجتماع الجسد.

لعلّ تنوّع الخطابات هذا يعود إلى أنّنا لا نستطيع حصر الجسد في زاوية معرفيّة بمعزل عمّا سواها، بالإضافة إلى حضور الجسد الصارخ عند الحديث عن الثنائيّات الميتافيزيقيّة، فلا يمكن التطرّق إلى موضوع ’الذات‘ أو ’الروح‘ أو ’الوجود‘ أو ’الهويّة‘، دون حضور الجسد، "فقد شهد العالم منذ السبعينات والثمانينات من القرن الماضي انكبابًا لافتًا على دراسة هذا الموضوع، وتجديد النظر إليه، سواء في إطار العلوم البيولوجيّة أو في إطار العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، خاصّة منها ما يتعلّق بمسألة الهويّة، وتمثّل الآخر والتفاعل والاستهلاك والأخلاق"[1].

برز علم اجتماع الجسد بوصفه مجالًا متميّزًا للدراسة كنتيجة لهذا الاحتفاء بهذا الموضوع، وقد تناول علماء الاجتماع الجسد عبر عدّة زوايا، لعلّ أهمّها وأبرزها الزاوية الّتي لم تعتبر الجسد مجرّد تجميع لأعضاء فيزيولوجيّة...

من هنا يمكننا القول إنّ دراسة الجسد وسبر أغواره ركيزة أساسيّة في مقاربة الوجود الإنسانيّ بشكل عامّ، وما ينطوي فيه من صراعات؛ فالجسد عبارة عن ذاكرة تنطلي عليها وقائع الماضي، وتنقش عليها صراعات الحاضر. ولعلّ اختيارنا لدراسة الجسد الأنثويّ في هذه الورقة يعود في الأساس إلى ذلك الخلاف الفيزيولوجيّ بين الرجل والمرأة، الّذي انعكس بشكل جليّ على وضعها وعلاقتها بجسدها أوّلًا، وعلاقة هذا الجسد بالمجتمع ثانيًا.

 

الجسد الأنثويّ بين المفهوم والدلالة الرمزيّة

يتّصف مفهوم ’الجسد‘ بالتعقيد؛ إذ يشكّل نقطة التقاء وتقاطع بين عديد العلوم، ممّا أدّى إلى التباس في المفهوم وفوضى في التعريفات. بعيدًا عن التعاريف المعجميّة واللغويّة الّتي جاءت كتمهيد للتعريفات الأخرى، ينشأ صراع آخر بين البيولوجيّين وغيرهم؛ ففي نقد واضح لتعريف الجسد بيولوجيًّا يقول شيبراز: "إنّ الثنائيّة الكلاسيكيّة والعلوم الحديثة – البيولوجيا - تتحدّث عن تنظيم عضويّ لا عن إنسان"[2]. وقبل التطرّق إلى هذا الصراع وجب القول إنّ الاهتمام بالجسد ليس حديثًا؛ فقد بدأ فلسفيًّا من الفلسفة اليونانيّة الّتي تطرّقت إلى ثنائيّة الجسد والروح ومفاهيم أخرى ذات صلة، وكذلك الفلسفة الإسلاميّة هي الأخرى لم تهمل هذا الموضوع، فكتب فيه ابن رشد وكذا ابن سينا، غير أنّ القاسم المشترك بينهما كان أن أوليا الاهتمام الأكبر لجزئيّة الروح، في الوقت الّذي كانت فيه النظرة إلى الجسد تتّسم بالدونيّة.

استمرّ نقاش الجسد في وجوده المادّيّ وعلاقته بالروح في العصر الحديث أيضًا، غير أنّ هذا العصر شهد زوال تلك النظرة الدونيّة للجسد بداية من ديكارت وسبينوزا، غير أنّ هذا المنهج عرف ازدهارًا أكبر مع نيتشه الّذي يرى أنّ "الجسد عقل عظيم ومظاهر متعدّدة لمعنًى واحد، وهذا العقل الصغير الّذي تسمّيه الروح، ليس في النهاية إلّا آلة لجسدك"[3] في إطار ثورته على عدميّة الفكر الغربيّ الكلاسيكيّ، الّتي نصّبت العقل كسلطة عليا، ورأت فيه أنّه قوام الحقيقة، وفي مكان الله.

وتلاه في ذلك ميرلوبونتي الّذي اعتبر أنّ "الجسد هو مركبة الكائن في هذا العالم، إنّه محور العالم"[4]، وهو الّذي أولى أهمّيّة كبرى للجسد ووظائفه، وكذا التطوّر الّذي يعرفه في منهج لا يختلف عن مناهج الكيمياء وعلم الأحياء، فيتحدّث عن التطوّر الحاصل في الجسد، وانتقاله من جسم موضوعيّ إلى جسم فينومينولوجيّ من أجل الوصول إلى قلب الأشياء وأصلها.

لعلّ أهمّ ثورة في مفهوم الجسد جاءت مع المشروع الفوكويّ السائر على خطى نيتشه، الّذي أخذ هذا المفهوم إلى بُعد آخر؛ من خلال إقامته لمقاربة تحليليّة للحضور السلطويّ، وكيفيّة اختراقه للذات والأجساد، وكشفه لمعالم الاستغلال الجسديّ كآلة سلطويّة لفرض الهيمنة، فتطرّق إلى مفهوم الجنون والجسد المعاقب والمشوّه.

 

الجسد عربيًّا

عربيًّا، اكتسى النقاش حول الجسد طابعًا قدسيًّا وصبغة إسلاميّة، فاهتمّت أغلب الدراسات بالمفهوم وأصله من خلال النصّ القرآنيّ، بالعودة لكتب التفسير والفقه، دون إغفال بعض المحاولات الّتي تأثّرت بالفكر الغربيّ وتناوله لجسد الحداثة، وكذلك جسد ما بعد الحداثة.

وبالعودة للدلالة الرمزيّة للجسد بعيدًا عن التعريفات الفلسفيّة والبيولوجيّة للجسد، نجد نقاشًا آخر بين الأنثروبولوجيّين وعلماء الاجتماع هذه المرّة، ولو أنّ الخلاف بينهما لا يبدو عميقًا، فقد أولى الحقلان أهمّيّة بالغة لدراسة الجسد كمُعطًى ثقافيّ واجتماعيّ؛ إذ يَعتبر بول توبينارد أنّ "الأنثروبولوجيا هي العلم الأنسب الّذي يدرس الجسد، باعتبارها شعبة من العلوم الّتي تدرس الإنسان وأصوله وتغيّراته"[5]، ممّا يعني أنّ الجسد الإنسانيّ هو كلّيّة بيو – ثقافيّة لا يمكن الفصل فيها.

فالجسد، إذن، هو ظاهرة كلّيّة في الأنثروبولوجيا، ويجب ألّا يؤخذ بمعزل عن العلوم الأخرى، وهو نفس ما ذهب إليه علماء سوسيولوجيا الجسد؛ إذ يرون أنّه "من المهمّ التوضيح بأنّ ما ندعوه علم ’سوسيولوجيا الجسد‘ يجب ألّا يُدرَس تخصّصًا أساسيًّا منفردًا قائمًا بذاته، مثلما هو الحال مع سوسيولوجيا الأديان أو العمل أو العائلة؛ لأنّ الجسد ببساطة ليس حقيقة اجتماعيّة أو مؤسّساتيّة"[6]. قد تبدو هذه التعريفات هي الأشمل، إذ لم تفرّق بين الجسم والجسد أو بين الجسد والروح، بل نظرت إليه نظرة كلّيّة لها آثارها الثقافيّة والاجتماعيّة.

 

الجسد في الدراسات الجندريّة

من الحقول المعرفيّة الّتي يصطدم بها موضوع الجسد، نجد الدراسات الجندريّة الّتي عرفت ازدهارًا منذ الموجة النسويّة الثانية، وتمكّنت من الدخول إلى حقل العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة. إذ يرى علماء الاجتماع أنّ الجسد أصبح "معلمًا هويّاتيًّا مهمًّا في عمليّات التبادل الاجتماعيّ"[7]، وهذا دليل على حضور الجسد في دراسات النوع الاجتماعيّ والدراسات المتعلّقة بها.

لا يوجد كائن ارتبط وجوده بالجسد، كما هو الحال عند المرأة؛ فالحديث عن الجسد ظلّ لوقت قريب من التابوهات الّتي يصعب الخوض فيها، خاصّة داخل مجتمع تسوده أعراف وتقاليد ذكوريّة بامتياز...

يمكن القول إنّه لا يوجد كائن ارتبط وجوده بالجسد، كما هو الحال عند المرأة؛ فالحديث عن الجسد ظلّ لوقت قريب من التابوهات الّتي يصعب الخوض فيها، خاصّة داخل مجتمع تسوده أعراف وتقاليد ذكوريّة بامتياز، ويتّضح ذلك في مخرجات التنشئة الاجتماعيّة الّتي ترفع من قيمة الرجل وتحطّ من مكانة المرأة في أغلب الأحيان. انطلاقًا من مقولة سيمون دي بوفوار: "لا تولد المرأة امرأة بل تصير كذلك". تُحيل دي بوفوار في عبارتها الأشهر إلى المنظومة الاجتماعيّة الّتي تحصر دور الأنثى في نوعها الاجتماعيّ كامرأة.

تعاني المجتمعات العربيّة، على وجه التحديد، حالة استبداد مركّبة لا يمكن إدراجها تحت صنف واحد من الاستبداد؛ فهناك الاستبداد السياسيّ، وهناك الاستبداد الاجتماعيّ، وغيرهما. يرزح أفراد المجتمع إناثًا وذكورًا تحت وطأة هذا الاستبداد، إلّا أنّ المرأة تعاني استبدادًا آخر يؤثّر في وجودها العامّ، ألا وهو استبداد النظام الأبويّ الّذي يستمدّ سطوته من الموروثات الاجتماعيّة والعقائديّة. يحاول هذا النظام الأبويّ كبت كلّ ما له علاقة بالمرأة ابتداءً من الجسد حتّى الذات. يتباين أفراد هذا النظام الأبويّ بين رجال دين ورأسماليّين وأفراد العائلة؛ كلّ فرد من هؤلاء له نظرة معيّنة تجاه جسد المرأة، فجسد المرأة عند رجل الدين هو تجسيد لما هو محرّم، وهو بالنسبة إلى الرأسماليّين لا يتعدّى كونه شيئًا، أمّا بالنسبة إلى العائلة فالجسد هو مكمن الشرف.

 إذن، يتصارع الجميع لتوطيد نظرته الخاصّة تجاه هذا الجسد الأنثويّ. إلى الدرجة الّتي معها يمكن وصف جسد المرأة بالوثيقة التاريخيّة المليئة بالإمضاءات والإمضاءات المضادّة للقوى الاجتماعيّة وصراعاتها، ولا نبالغ حين نقول إنّه يمكن التنبّؤ بالنظام القيميّ والثقافيّ لمجتمع ما من خلال قراءة جسد المرأة ومتعلّقاته. لا يقتصر وجود الجسد على فيزيقيّته فقط أو مادّيّته في الفضاء العامّ، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فهذا الجسد الأنثويّ التاريخيّ عبارة عن لوح خطّت عليه الخطابات أقوالها، وتركت عليه ندوبًا شاهدة على ما خلّفته هذه الخطابات من كبت وكبح لهذا الجسد.

 

عن جسد المرأة وتحرير الذات

لا يمكننا الحديث عن الجسد الأنثويّ دون التطرّق إلى جزئيّة السياق الجيوسياسيّ، الّذي يستغلّ مادّيّة هذا الجسد ويحوّلها إلى خطاب سياسيّ وثقافيّ في نفس الوقت، خاصّة في الفضاء السياسيّ العربيّ المشحون بصراعات سياسيّة مستمرّة؛ فعلى سبيل المثال يوظَّف جسد المرأة للتعبير عن فعل استباحة الأرض، وهنا كان لا بدّ من التساؤل أفي هذا التصوير تقديس لجسد المرأة أم تجذير لفكرة الجسد بوصفه عيبًا؟ هل جسد المرأة أكثر قدسيّة من الرجل؟ وكيف يعزّز هذا الخطاب والتمثيل السياسيّ من التعامل مع جسد المرأة مادّةً لا كيانًا مستقلًّا؟ وماذا لو قلبنا الآية ودرسنا نظرة المرأة نفسها إلى جسدها، والانعكاسات المتولّدة عن هذه النظرة تجاه ذاتها، وهل ذوّتت المرأة نظرة المجتمع؟ أم هل عمدت إلى مقاومتها؟

يتصارع الجميع لتوطيد نظرته الخاصّة تجاه هذا الجسد الأنثويّ. إلى الدرجة الّتي معها يمكن وصف جسد المرأة بالوثيقة التاريخيّة المليئة بالإمضاءات والإمضاءات المضادّة للقوى الاجتماعيّة وصراعاتها...

تلك أسئلة مشروعة وجب على الدارس للخطاب النسويّ، ولكلّ من يحاول التصدّي للعنف الممارَس على المرأة، مهما كان نوعه لأسباب جندريّة، أن يطرحها ويسلّط الضوء عليها في محاولة للاهتمام بالجسد الأنثويّ من منظور آخر، من منظور ذات المرأة نفسها؛ ففي كتاب «الذات تصف نفسها»، تطرح جوديث بتلر مثلًا قضايا شائكة حول الذات ومدى قدرة هذه الذات على وصف نفسها، وما الطرق الّتي تستطيع الذات من خلالها تقديم تصوّرات صحيحة حول نفسها؟ مع ضرورة إدراك أنّ هذه الطرق تشتبك بعرًى وثيقة مع سياسات المنظومة الاجتماعيّة.

 كيف يمكن لهذه الذات أن تكشف عن نفسها في إطار حاضنتها الاجتماعيّة، الّتي لا تكفّ عن ممارسة عنف أخلاقيّ واجتماعيّ تجاهها، ممّا يتسبّب في خلق حالة من الهذيان والخلل في العلاقة بين الطرفين؟ هل تستطيع هذه الذات الانخراط في حالة من التفاوض والمخاطبة مع الذوات الأخرى، انطلاقًا من مبدأ أنّ العلاقة بالآخر قائمة على عمليّة التخاطب؟ ذلك لأنّ عمليّة تنشئة الإحساس بالذات لا يمكن أن تكون مستقلّة عن محيطها لأنّها محكومة بعلائقيّتها بالآخر، و"معرفة الذات هي المعرفة الموضوعيّة لجوهر المجتمع"[8]. إنّ الحديث عن الذات مقترن بالحديث عن الجسد، ذلك لأنّنا "في حاجة إلى أن نستعيد وعينا بأجسادنا وأهمّيّتها لتحقيق ذواتنا"؛ فانعتاق الجسد هو انعتاق الروح، أي أنّ تحرّر الجسد شرط لوعي الذات بوجودها، وعندما تعي الذات كينونتها تبدأ بالتوق إلى بعث جديد ينقذ الجسد من قوقعته، وبالتالي يحرّر الذات.

 


إحالات

[1] رحال بوبريك، دراسات صحراويّة المجتمع والسلطة والدين (المغرب، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، 2007)، ص 53.

[2] François Chirpaz, Le Corps, Paris, PYFI 1ére édition, 1968, p 2.

[3] هشام العلوي، الجسد بين الشرق والغرب (الرباط، منشورات الزمن، 2004) ص 60.

[4] عمر مهيبل وآخرون، كوجيتو الجسد في دراسة فلسفة ميرلوبونتي (الجزائر، منشورات الاختلاف، 2003)، ص 32.

[5] BOËTSCH Gilles et CHEVÉ Dominique (2006), «Du corps en mesure au corps dé-mesuré : une écriture anthropobiologique du corps?», in Corps, Dilecta, n° 1, p 24.

[6] KITABGI Sylvène, HANIFI Isabelle (2003), «La sociologie du corps généalogie d’un champ d’analyse», in CIOSI-HOUCKE Laure et MAGALI Pierre (dir.), Le corps sens dessus dessous : Regards des sciences sociales sur le corps, France, l’Harmattan, coll. Sciences Humaines et Société, p21

[7] KAUFMANN, Jean Claude (1998), Corps de femmes, regards d'hommes : Sociologie des seins nus sur la plage, Paris, Nathan, p. 34

[8] رولان بارت، لذّة النصّ، ترجمة فؤاد صفا والحسين سحبان (المغرب، دار توبقال، 2001)، ص 10.

 


 

خيّرة مطاي

 

 

 

أستاذة وباحثة جزائريّة، حاصلة على ماجستير في «الأدب المقارن» من «معهد الدوحة للدراسات العليا».